السبت، يناير 05، 2013

قصة قصيرة: أمل الحب



 قصة قصيرة: أمل الحب  

توجهت نحو الباب، مـدّت يدها لتلامس مقبضه، اطالت الإمساك به و لكأنها تتحـسـس مدى برودته التي تعكس برودة حجرتها.

فجأة ... سحبت يدها من المقبض، وأدارت بوجهها رامية ثقل جسدها الممتلئء على الباب مما دوّى بغلقه، يداها بالخلف و راسها للأعلى يستند على خشب الباب .

اغرورقت عيناها بالدموع واحساس الألم الغامض يعتصر قلبها اليافع.

أحست بالوحدة ورأت نفسها في خيالٍ مستند إلى الباب و هالة من الضوء مسلطة عليه وسط ظلام ...

اخـتـنـقـت بالعَبْرَة وهي تحاول أن تصرخ:
"لمــاذا ؟! لماذا ؟!"
لكن دون جدوى، فقد خانتها أوتارها وفقدت النطق لحظة ارادت فيها أن تصرخ لتزيح الحزن الجاثم على عقلها.

في هدوء الطفل حركت يداها من خلفها مودعة خشونة الخشب لتمسح دموعها وتغطي وجهها الناعم.

رفعت رأسها لترى بعض من حزم النور وقد ترامت حول الصورة المركونة على جانب السرير المغطى بالملااءات البيضاء والصبغة الملائكية تحوط به.

ابتسمت لسخرية القدر، لم تستمر ابتسامتها طويلا حتى لحِظَت السواد المعُتم باعثاً الخوف إلى اعماقها،
تسارعت نبضات فؤادها المُحطم ورعشة الخوف تسري في جسدها،

نظرت إلى أرجاء الغرفة علها تجد ما تحتمي به من تلك الظلمة المخيفة،
فإذا بالمرآة تناديها، عجبت منها ولبّت النداء.

دب فيها الوهن فينة و ساورها الشك اخرى.

نظرت إلى المرآة فلم تجد إلا انعكاسات لإنسانيتها ووجودها ككائن حي.
نظرت في عينيها ووجدت البحر ماثلا أمامها فيروزا تألقَ لامعاً بين ثنايا وجهها المشرق.
أسبلت الجفن إلى نصف إغماضة.. لاح لها جيدها خالياً صافياً حاملاً رأسها المفعم بالأفكار، رفعت يدها تتحسه، مررت كفها إلى أعلى رقبتها، ثم باطراف اصابعها أسفل ذقنها مرة تلو المرة ببطءٍ يحذوه الألم و الحزن.

اخفضت يدها إلى صدرها تتحسس اطراف القميص من أعلاه، ازاحت شعرها المنسدل كالخيوط الحريريه إلى خلف كتفها وبدأت بحل ازرار القميص، نصع بياض صدرها فدهشت منه ولكـأنها ترى صدرها لأول مرة ،

توقفت عن حل بقية الأزرار و شدّت القميص من دبره لترى جمالها المنعكس في المرآة، بدى بعض من نهديها الأرنبين واستواء بطنها المملؤ دون بدانة،
أحكمت قبضتها على القميص وشرعت تلم شعرها المنثور فغدت روعة الخالق تتجلى لها في مخلوقته.

أدارت قمر وجهها نحو اليمين تارة وأخرى نحوالشمال تتفقد نعومته باحثة عن عيب فيه.

تملكها الغضب، وأخذت يدها الآخرى تشد أزرَ زميلتها تلمُّ وتشدُّ شعرها للخلف، ثم وضعت رأسها بين راحتي كفيها واتكأت بمرفقيها على الطاولة التي أمامها،
نظرت ملـيّـاً في المرآه و بغــتة في حدّةِ تأملاتها رفعت يديها واسقطتهما ضاربة فخذيها تصرخ "لماذا؟!" في اعماقها منكسةٌ رأسها مغمضة عينها والدمع يحاول الهروب..

لحظات فإذا بالباب يطرق ثم يفتح كأنما الطارق لم ينتظر إذنا بالدخول،

دخلت الأم الجليلة تعزي ابنتها وتذكرها بقوله تعالى "عسى ان تكرهوا شيئا و هو خير لكم" و تلتها بآيات أخرى لتخفف من عظم مصاب ابنتها. فإذا بها ترتمي في حضن والدتها وتجهش بالبكاء وتهل الدمع معبرة عن حزنها العميق المكبوت في حنايا صدرها.

حاورتها عن العلم و تقدم الطب، و أنى لها ان تقبل بذبح أوَ تعذيب مخلوق حي من خلق الله بل من روحها هي ..

انه لو تزوجت منه لأقدمت على جرمٍ بحق اطفالها... وراحت الأم تتحدث بينما حلقت الإبنة بخيالها ، شاردة بفكرها إلى الماضي البعيد، حيث كانت تسعد مع ابن عِمّـها، كم كان تعلقها وحبها له في صغرها، ... تدافع عنه و تغضب له حين يشرع أحدٌ بتوبيخه لخطأ ما قام به، وكان يبادلها الشعور ذاته.. ثم انتقلت بالذكريات عند بديات إلتزامها بالحجاب، حين بدت ملامح البلوغ تظهر عليها،
كم كانت سعيدة معه وهو يحاول ممازحتها واستفزازها اول مرة رآها مرتدية الحجاب..كان يناديها بـ"الحجية" ويا "جدّة"..
ابتسمت و استمرت مبحرة في ذكرياتها.. كم كان القرار حينها صعب أن تقسو على مشاعرها كيلا تتجاوز آداب الاسلام وتقاليد العرف مع ابن عمها.. ، وكم من الأيام انتظرت قدومه لخطبتها...

تعود بها الأيام حين كانت تمازحها أمها بطلبها (ابنتان) مثل حماتها والاخرى مثلها و كذلك ولدين احدهما كـ "صالح" والاخر كآباها، وترد على أمها:

"حين يتقدم لخطبتي سأرفض!"

وامها تبتسم و تخبرها المقولة العربية القديمة "كلام الليل يمحوه النهار"
فتتورد خديها وتنادي في خجل .."اُميّ!!"

واخذت تسافر وتسافر .. ترسو وتبحر بين محطات ذكرياتها.

وبينما كانت الأم مستمرة بالحديث عندها، ويدها تداعب خصلات شعر ابنتها بحنانها المتدفق،

كانت "أمل" قد هدأت نفسها لِما جَالَ بفكرها من عذب الذكرياتـ واخذت الأم تدعو لها وتقبل جبينها وتضمها لصدرها.
حملتها اللحظات إلى يومها المشهود حين تقدم "صالح" لخطبتها وكيف أشرق وجهها نوراً و ملـئت البيت نشاطاً وسعادة, والبسمة لا تـفارق محياها بينما الأم تردد:
" حين يتقدم لي"، "لن أقبل"، "سأرفض"

وضحكتها الطاهرة تداعب مسمع "أمل" التي راحت تقبل امها كلما ردّدت هذه الجمل أوَ إحداها..

و بين جدران الغرفة فان نفس "أمل" الهادئة طمئنت امها التي كانت تقول:

"هيا نامي الآن لترتاحي"

فإذا هي تبكي وتأن من جديد, كانت الآلام تتسابق للتعبير عمـّـا يدور بخلدها,
كانت الأوراق التي جلبها اباها مطوية وَ الكدر يعلو وجهه والتقارير كلها كفيلة بأن تطرح ابنته فلذة كبده طريحة بفراش المرض من حمـى الحب - و أيُّ حبٍّ طاهرٍ هذا؟!- و كيف استدلت هي على نتائج الكشف المبكر دون النظر للتقارير من وجه ابيها، صاحت:

"مستحيل يا أبي!! مستحيل!!!!"

علامات الإنكار و القهر تطغي على ملامحها فما كان أباها مالكاً البأس ليكفيها البكاء و فرت هاربة من الواقع تلتجأ غرفتها ليجوبها مع الأنوار المطفاة سوادٌ يتماشى والحزن في قلبها.. وما كان من أمها إلا أن لحقت بها تواسيها حين سمعت ضجيج صفعة الباب ورأت الاوراق بيد الوالد و وجههُ الواجم، وَ هاهي تبكي في حضنها بحرارة الموت، ولعل الموت كان في نظرها ارحم.

في اليوم التالي, توجهت "أمل" إلى امها فألقت عليها التحية، تبّسمت الأم ومدّت يدها تناديها إلى أحضانها بذراعين مفتوحتين وعينين يفيض الحنان من نظرتهما, اقتربت رويدا رويدا فـأحتضنتها و قبلتها..

و لمّـا رأت الام ثبات و صلابة ابنتها "أمل" قالت:

هكذا يا ابنتي, هذه ابنتي "أمل", المؤمن يتمسك بالله و يُـسلّم بقضاءه و قدره. ابقي قوية كما عهدتك.

ابتسمت "أمل" وقالت:

أجل يا أمي ولكن, إنك تعلمين كم أحب "صالح" و كم هو يحبني, إني لواثقة انه برجولته و قوة عزيمته

يستطيع أن يتماسك ويكتم بل يقتل حبي في اعماقه و يتمالك نفسه فيخلص و يوفي لمن يتزوجها، و لكني ضعيفة، و لست اقدر إلا على خيانة زوجي، لن احتمل فراق "صالح" أوَ أنسى حبي له. أحست "أمل" بضعـف يسري في اعماقها فظهرت بعضا من صيغة التوسل بسؤالها أمها:
فهل تزوجينني منه؟ 
أعدك ألا أقدم على إنجاب طفلا أكون سبباً في مرضه وَ تعذيبة، هل تقبلين يا أمي؟ - قالتها و الإلحاح بادٍ عليها- ولسوف اختار له زوجة ً ينعم معها بالأبوة ولسوف لن اكرهها...لا! لن اكرهها، سأحبها، أجل سأحبها لنعمل سويا على إسعاد "صالح".

هل تقبلين يا أمي؟!؟

بينما الأم تنظرها مشفقة على حالها و تتألم لألمها، راحت "أمل" تبكي و تأن مرتمية في حضن أمها.

---------------------------------------------------
حرر في 1421/4/24 هـ الموافق 2000/7/26 م

---------------------------------------------------
Share:

0 التعليقات:

إرسال تعليق